فصل: قال السمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة الجن:
{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا (1)}
قوله: {أُوحِي}: هذه قراءة العامةِ أعني كونها مِنْ أوْحى رباعيا. وقرأ العتكِيُّ عن أبي عمروٍ وابنُ أبي عبلة وأبو إياس {وُحِي} ثلاثيا، وهما لغتان، يقال: وحى إليه كذا، وأوْحاه إليه بمعنى واحدٍ. وأُنْشِد للعجاج:
وحى لها القرار فاسْتقرّت

وقرأ زيدُ بن علي والكسائيُّ في روايةٍ وابنُ أبي عبلة أيضا {أُحِي} بهمزةٍ مضومة ولا واو بعدها. وخُرِّجتْ على أنّ الهمزة بدلٌ من الواوِ المضمومةِ نحو: (أُعِد) في (وُعِد) فهذه فرْعُ قراءة {وُحِي} ثلاثيا. قال الزمخشري: وهو من القلْبِ المطلقِ جوازُه في كلِّ واوٍ مضمومةٍ، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورةِ أيضا كإشاح وإسادة و{إعاءِ أخِيهِ} [يوسف: 76]، قال الشيخ: وليس كما ذكر، بل في ذلك تفصيلٌ. وذلك أنّ الواو المضمومة قد تكونُ أولا وحشْوا وآخِرا، ولكلٍ منها أحكام. وفي بعضِ ذلك خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في النحو. قلت: قد تقدّم القول في ذلك مُشْبعا في أولِ هذا الموضوعِ ولله الحمدُ. ثم قال الشيخ: بعد أن حكى عنه ما قدّمْتُه عن المازني وهذا تكثيرٌ وتبجُّحٌ. وكان يذْكُرُ ذلك في سورة يوسف عند قوله: {وِعاءِ أخِيهِ} [يوسف: 76]. وعن المازنيِّ في ذلك قولان، أحدُهما: القياسُ كما ذكر، والثاني: قصْرُ ذلك على السّماع. قلت: لم يبْرحِ العلماءُ يذْكرون النظير مع نظيرِه، ولمّا ذكر قلْب الهمزةِ بأطِّرادٍ عند الجميعِ ذكر قلْبها بخلافٍ.
قوله: {أنّهُ استمع} هذا هو القائمُ مقام الفاعل؛ لأنّه هو المفعولُ الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوزُ أنْ يكون القائمُ مقامه الجارّ والمجرور، فيكون هذا باقيا على نصبِه. والتقدير: أوحي إليّ استماع نفرٍ. و{مِنْ الجنِّ} صفةٌ ل {نفرٌ} ووصْفُ القرآن بعجب: إمّا على المبالغةِ، وإمّا على حذْفِ مضافٍ، أي: ذا عجبٍ، وأمّا بمعنى اسم الفاعلِ، أي: مُعْجِب: و{يهْدِي} صفةٌ أخرى.
{يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا (2)}
وقرأ العامّةُ: {الرشد}: بضمة وسكونٍ وابن عمر بضمِّهما، وعنه أيضا فتْحُهما، وتقدّم هذا في الأعراف.
{وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا (3)}
قوله: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا}: قرأ الأخوان وابن عامر وحفص بفتح (أن) وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون بالكسرة. وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ {وإنه لمّا قام} بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتحِ في قوله: {وأنّ المساجد لِلّهِ} وتلخيص هذا: أن (أن) المشددة في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ ليس معه واوُ العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحِه أو كسرِه. على حسبِ ما جاءتْ به التلاوةُ واقْتضتْه العربيةُ، كقوله: {قُلْ أوحي إليّ أنّهُ استمع} لا خلاف في فتحِه لوقوعِه موقع المصدرِ وكقوله: {إِنّا سمِعْنا قرآنا} [الجن: 1] لا خلاف في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول.
القسم الثاني أن يقترن بالواوِ، وهو أربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحِها وهي: قوله تعالى: {وأنّ المساجد لِلّهِ} [الجن: 18] وهذا هو القسم الثالث والثانية: {وأنّهُ لّما قام} [الجن: 19] كسرها ابنُ عامرٍ وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرة الباقيةُ: فتحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدّم تحريرُ ذلك كلِّه. والاثنتا عشرة هي قوله: {وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا}، {وأنّهُ كان يقول} [الجن: 4] {وأنّا ظننّآ} [الجن: 5] {وأنّهُ كان رِجالٌ} [الجن: 6] {وأنّهُمْ ظنُّواْ} [الجن: 7] {وأنّا لمسْنا} [الجن: 8] {وأنّا كُنّا} [الجن: 9] {وأنّا لا ندري} [الجن: 10] {وأنّا مِنّا الصالحون} [الجن: 11] {وأنّا ظننّآ} [الجن: 12] {وأنّا لمّا سمِعْنا} [الجن: 13] {وأنّا مِنّا المسلمون} [الجن: 14]. وإذا عرفْت ضبْطها من حيث القراءات فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك.
وقد اختلف الناسُ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: هو معطوف على مرفوعِ {أُوْحِي} فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسمّ فاعِلُه. وهذا الذي قاله قد ردّه الناسُ عليه: مِنْ حيث إنّ أكثرها لا يصِحُّ دخولُه تحت معمولِ {أُوْحِي} ألا ترى أنه لو قيل: أوحي إليّ أنّا لمسْنا السماء، وأنّا كُنّا، وأنّا لا ندْري، وأنّا منّا الصالحون، وأنّا لمّا سمِعْنا، وأنّا مِنّا المسلمون لم يسْتقِمْ معناه. وقال مكي: وعطف (أن) على {آمنّا بِهِ} [الجن: 2] أتمُّ في المعنى مِنْ العطف على {أنّه استمع} لأنك لو عطفت {وأنّا ظننّآ} [الجن: 5] {وأنّا لمّا سمِعْنا} [الجن: 13] {وأنّهُ كان رِجالٌ مِّن الإنس} [الجن: 6] {وأنّا لمسْنا} [الجن: 8]، وشِبْه ذلك على {أنّهُ استمع} [الجن: 1] لم يجُزْ؛ لأنه ليس مِمّا أُوْحِي، إليه، إنما هو أمرٌ أو خبر، وأنه عن أنفسهم، والكسرُ في هذا أبْينُ، وعليه جماعة مِنْ القراء.
الثاني: أنّ الفتح في ذلك عطف على محلِّ {به} (من) {آمنّا به}. قال الزمخشري: كأنه قال: صدّقْناه وصدّقْناه أنه تعالى جدُّ ربّنا، وأنّه كان يقول سفيهُنا، وكذلك البواقي. إلاّ أنّ مكيّا ضعّف هذا الوجه فقال: والفتحُ في ذلك على الحمْلِ على معنى {آمنّا به} وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنّهم لمّا سمِعوا الهدى آمنوا به، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ، إنما حكى اللّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم، فالكسرُ أوْلى بذلك.
وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنّ المعنى على ذلك صحيحٌ.
وقد سبق الزمخشريّ إلى هذا التخريجِ الفرّاءُ والزجّاجُ. إلاّ أنّ الفرّاء استشعر إشكالا وانفصل عنه، فإنه قال: فُتِحتْ (أن) لوقوع الإِيمانِ عليها، وأنت تجدُ الإِيمان يحْسُنُ في بعضِ ما فُتح دون بعضٍ، فلا يُمْنعُ من إمضائِهنّ على الفتح، فإنه يحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فتْح (أن) نحو: صدقْنا وشهِدْنا، كما قالت العربُ:
........................ ** وزجّجْن الحواجب والعُيونا

فنصب (العيون) لإِتباعِها الحواجب، وهي لا تُزجّجُ. إنما تُكحّلُ، فأضمر لها الكُحْل. انتهى. فأشار إلى شيءٍ مِمّا ذكره مكيٌّ وأجاب عنه. وقال الزجّاج: لكنّ وجهه أنْ يكون محمولا على معنى {آمنّا به}؛ لأنّ معنى {آمنّا به} صدّقْناه وعلِمْناه، فيكون المعنى: صدّقْنا أنه تعالى جدُّ ربِّنا.
الثالث: أنه معطوف على الهاء به، أي: آمنّا به وبأنه تعالى جدُّ ربِّنا، وبأنه كان يقول، إلى آخره، وهو مذهب الكوفيين. وهو وإن كان قويا من حيث المعنى إلاّ أنّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ، لِما عرفْت مِنْ أنّه لا يُعطف على الضميرِ المجرورِ إلاّ بإعادةِ الجارِّ. وقد تقدّم تحقيقُ هذيْن القوليْن مستوفى في سورةِ البقرة عند قوله: {وكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أنّ مكِّيّا قد قوّى هذا لمدْركٍ آخر وهو حسنٌ جدا، قال رحمه الله: وهو يعني العطف على الضميرِ المجرورِ دون إعادةِ الجارِّ في (أن) أجودُ منه في غيرها، لكثرةِ حذْفِ حرفِ الجرِّ مع (أن).
ووجهُ الكسرِ العطف على قوله: {إِنّا سمِعْنا} [الجن: 1] فيكون الجميعُ معمولا للقول، أي: فقالوا: إنّا سمِعْنا، وقالوا: إنّه تعالى جدُّ ربِّنا إلى آخرِه. وقال بعضُهم: الجملتان مِنْ قوله تعالى: {وأنّهُ كان رِجالٌ} [الجن: 6] {وأنّهُمْ ظنُّواْ} [الجن: 7] معترضتان بين قول الجنِّ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى، والظاهرُ أنّهما مِنْ كلامِهم، قاله بعضُهم لبعضٍ. ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قوله: {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله} [الجن: 19] ما تقدّم. ووجْهُ إجماعِهم على فتح {وأنّ المساجد} [الجن: 18] وجهان، أحدُهما: أنّه معطوف على {أنّهُ استمع} [الجن: 1] فيكونُ مُوْحى أيضا. والثاني: أنه على حذْفِ حرفِ الجرِّ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي، أي: فلا تدْعوا مع اللّهِ أحدا؛ لأنّ المساجد للّهِ، ذكرهما أبو البقاء.
قال الزمخشري: {أنه استمع} بالفتح؛ لأنّه فاعلُ {أُوْحي} و{إِنّا سمِعْنا} [الجن: 1] بالكسرِ؛ لأنّه مبتدأٌ محْكِيٌّ بعد القول، ثم تحملُ عليهما البواقي، فما كان مِن الوحي فُتِح، وما كان مِنْ قول الجِنِّ كُسِر، وكلُّهُنّ مِنْ قولهم إلاّ الثِّنْتيْنِ الأُخْرييْنِ وهما: {وأنّ المساجد} [الجن: 18] {وأنّهُ لّما قام عبْدُ الله} [الجن: 19]. ومنْ فتح كلّهن فعطفا على محلِّ الجارِّ والمجرور في {آمنّا بِهِ} [الجن: 2]، أي: صدّقْناه، وصدّقْنا أنه.
وقرأ العامّةُ: {جدُّ ربِّنا} بالفتح مضافا ل {ربِّنا}، والمرادُ به هنا العظمةُ. وقيل: قُدْرتُه وأمرُه. وقيل: ذِكْرُه. والجدُّ أيضا: الحظُّ، ومنه قوله عليه السلام: «ولا ينْفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ» والجدُّ أيضا: أبو الأبِ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التّواني في الأمر.
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ {ربُّنا} وتنوينِ {جدٌّ} على أنْ يكون {ربُّنا} بدلا مِنْ {جدٌّ}، والجدُّ: العظيم. كأنه قيل: وأنّه تعالى عظيمٌ ربُّنا، فأبدل المعرفة من النكرةِ، وعنه أيضا {جدّا} منصوبا منوّنا، {ربُّنا} مرفوعٌ. ووجْهُ ذلك أنْ ينتصِب {جدّا} على التمييز، و{وربُّنا} فاعلٌ ب {تعالى} وهو المنقول مِنْ الفاعليةِ، إذ التقديرُ: تعالى جدُّ ربِّنا، ثم صار تعالى ربُّنا جدّا، أي: عظمة نحو: تصبّب زيدٌ عرقا، أي: عرقُ زيدٍ. وعنه أيضا وعن قتادة كذلك، إلاّ أنّه بكسرِ الجيم، وفيه وجهان، أحدُهما: أنّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، و{ربُّنا} فاعلٌ ب {تعالى} والتقدير: تعالى ربُّنا تعالى جدّا، أي: حقا لا باطلا. والثاني: أنّه مصنوبٌ على الحالِ، أي: تعالى ربُّنا حقيقة ومتمكِّنا قاله ابنُ عطية.
وقرأ حميد بن قيس {جُدُّ ربِّنا} بضم الجيم مضافا ل {ربِّنا} وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ: ربُّنا العظيمُ نحو: (جرْدُ قطِيفة) الأصل قطيفة جرْدٌ، وهو مُؤول عند البصْريين وقرأ ابن السّميْفع {جدى ربِّنا} بألفٍ بعد الدال مضافا ل {ربِّنا}. والجدى والجدْوى: النّفْعُ والعطاء، أي: تعالى عطاءُ ربِّنا ونفْعُه.
والهاءُ في {أنّه استمع} {وأنّه تعالى} وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وما بعده خبرُ (أن) وقوله: {ما اتخذ صاحِبة} مستأنفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جدِّه.
{وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا (4)}
قوله: {سفِيهُنا}: يجوزُ أنْ يكون اسم كان، و{يقول} الخبرُ، ولو كان مثلُ هذه الجملة غير واقعةٍ خبرا ل {كان} لامتنع تقديمُ حينئذٍ نحو: سفيهُنا يقول، لو قلت: {يقول سفيهُنا} على التقديمِ والتأخيرِ لم يجُزْ. والفرقُ: أنه في غيرِ بابِ {كان} يُلْبسُ بالفعلِ والفاعلِ، وفي باب {كان} يُؤْمنُ ذلك. والثاني: أنّ {سفيهُنا} فاعلُ {يقول} والجملة خبرُ {كان} واسمُها ضميرُ الأمرِ مستترٌ فيها. وقد تقدّم هذا في قوله: {ما كان يصْنعُ فِرْعوْنُ وقوْمُهُ} وقوله: {شططا} تقدّم مثلُه في الكهف.
{وأنّا ظننّا أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا (5)}
قوله: {ظننّآ أن لّن}: مخففةٌ، واسمُها مضمرٌ، والجملة المنفيةُ خبرُها، والفاصلُ هنا حرْفُ النفيِ. و{كذِبا} مفعولٌ به، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ. وقرأ الحسنُ والجحدريُّ وأبو عبد الرحمن ويعقوبُ {تقول} بفتح القافِ والواوِ المشدّدةِ، وهو مضارع {تقول}، أي: كذّب. والأصلُ تتقول، فحذف إحدى التاءيْن نحو: {تذكّرُون} [الأنعام: 152] وانتصب {كذِبا} في هذه القراءة على المصدرِ؛ لأنّ التقول كذِبٌ نحو قولهم: قعدْتُ جُلوسا.
{وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا (6)}
قوله: {مِّن الإنس}: صفةٌ لرجال، وكذلك قوله: {من الجنِّ}.
{وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننْتُمْ أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا (7)}
قوله: {أن لّن يبْعث}: كقوله: {أن لّن تقول} [الجن: 5] وأنْ وما في حيِّزها سادّةٌ مسدّ مفعوليْ الظّنِّ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنّ {ظنُّوا} يطْلُبُ مفعوليْن، و{ظننْتُم} كذلك، وهو إعمال الثاني للحذفِ مِنْ الأولِ، والضمير في {أنهم ظنُّوا} للإِنسِ، وفي {ظننْتُم} للجنِّ، ويجوزُ العكسُ. وبكلٍ قد قيل.
{وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا (8)}
قوله: {فوجدْناها}: فيها وجهان، أظهرُهما: أنّها متعدِّيةٌ لواحدٍ؛ لأنّ معناها أصبْنا، وصادفْنا، وعلى هذا فالجملة مِنْ قوله: {مُلِئتْ} في موضعِ نصبٍ على الحال. والثاني: أنّها متعدِّيةٌ لاثنينِ، فتكونُ الجملة في موضعِ المفعولِ الثاني.
{وحرسا} منصوبٌ على التمييزِ نحو: (امتلأ الإِناءُ ماء). والحرسُ اسمُ جمع ل حارِس نحو: خدم لخادِم، وغيب لغائِب، ويُجْمعُ تكسيرا على أحْراس، كقول امرئ القيس:
تجاوزْتُ أحْراسا وأهوال معْشرٍ ** عليّ حِراصٍ لو يُشِرُّون مقْتلي

والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدرُ الحِراسةُ. و{شديدا} صفةٌ ل حرس على اللفظِ، كقوله:
أخشى رُجيْلا ورُكيْبا عادِيا

ولو جاء على المعنى لقيل: شِدادا بالجمع.
وقوله: {وشُهُبا} جمعُ شِهاب ك كِتاب وكُتُب. وهل المرادُ النجومُ أو الحرسُ أنفسُهم؟ وإنما عطف بعض الصفاتِ على بعضٍ عند تغايُرِ اللفظِ كقوله:
.............................. ** أتى مِنْ دُونِها النّأْيُ والبُعْدُ

وقرأ الأعرج {مُلِيتْ} بياءٍ صريحةٍ دون همزةٍ. ومقاعِد جمعُ مقْعد اسم مكان.
{وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمنْ يسْتمِعِ الْآن يجِدْ لهُ شِهابا رصدا (9)}
قوله: {الآن}: هو ظرفٌ حاليٌّ. واستعير هنا للاستقبال كقوله:
.................. ولكنْ ** سأسْعى الآن إذ بلغتْ أناها

فاقترن بحرفِ التنفيس، وقد تقدّم هذا في البقرة عند قوله: {فالآن باشِرُوهُنّ} [البقرة: 187] ورصدا: إمّا مفعولٌ له، وإمّا صفة لشِهابا، أي: ذا رصد. وجعل الزمخشريُّ الرّصد اسم جمعٍ كحرس، فقال: والرّصدُ: اسمُ جمْعٍ للراصِد ك حرس على معنى: ذوي شِهابٍ راصِدين بالرّجْم، وهم الملائكةُ. ويجوزُ أنْ يكون صفة للشِّهاب، بمعنى الراصِد، أو كقوله:
........................... ** ومِعى جِياعا

{وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا (10)}
قوله: {أشرٌّ أُرِيد}: يجوزُ فيه وجهان، أحسنُهما، الرفعُ بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغالِ، وإنما كان أحسن لتقدُّمِ طالبِ الفعلِ، وهو أداةُ الاستفهامِ. والثاني: الرفعُ على الابتداءِ. ولقائلٍ أنْ يقول: يتعيّنُ هنا الرفعُ بإضمارِ فعلٍ لمدْركٍ آخر: وهو أنّه قد عطف ب {أم} فِعْلٌ، فإذا أضْمرْنا الفعل رافِعا كُنّا قد عطفنا جملة فعلية على مِثْلِها بخلافِ رفعِه بالابتداءِ، فإنّه حينئذٍ يُخْرِجُ {أم} عن كونِها عاطفة إلى كونِها منقطعة، إلاّ بتأويلٍ بعيدٍ: وهو أنّ الأصل: أشرٌّ أُريد بهم أم خيرٌ، فوضع قوله: {أمْ أراد بِهِمْ} موضع {خيرٌ} وقوله: {أشرٌ} سادٌّ مسدّ مفعوليْ {ندري} بمعنى أنه مُعلِّقٌ له، وراعى معنى (من) في قوله: {بِهِمْ ربُّهُمْ} فجمع.
{وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا (11)}
قوله: {ومِنّا دُون ذلِك}: فيه وجهان، أحدُهما: أنّ {دون} بمعنى (غير)، أي: ومِنّا غيرُ الصالحين، وهو مبتدأٌ، وإنما فُتِح لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍِ، كقوله: {لقد تّقطّع بيْنكُمْ} [الأنعام: 94] فيمنْ نصب على أحدِ الأقوالِ، وإلى هذا نحا الأخفشُ. والثاني: أنّ {دون} على بابِها من الظرفية، وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: ومنا فريقٌ أو فوجٌ دون ذلك وحذْفُ الموصوفِ مع (من) التبعيضيّةِ يكْثرُ كقولهم: منا ظعن ومنّا أقام، أي: مِنّا فريقٌ. والمعنى: ومِنّا صالحون دون أولئك في الصّلاح.
قوله: {كُنّا طرآئِق} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنّ التقدير: كنّا ذوي طرائق، أي: ذوي مذاهب مختلفةٍ. الثاني: أنّ التقدير: كُنّا في اختلاف أحوالِنا مثل الطرائقِ المختلفةِ. الثالث: أنّ التقدير: كُنّا في طرائق مختلفةٍ كقوله:
........................... ** كما عسل الطريق الثّعْلبُ

الرابع: أنّ التقدير: كانتْ طرائقُنا قِددا، على حذْفِ المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامةِ الضميرِ المضافِ إليه مُقامه، قاله الزمخشري، فقد جعل في ثلاثة أوجهٍ مضافا محذوفا؛ لأنّه قدّر في الأول: ذوي، وفي الثاني: مِثْل، وفي الثالث: طرائقنا. وردّ عليه الشيخ قوله: كُنّا في طرائق كقوله:
............................. ** كما عسل الطريق الثعلبُ

بأنّ هذا لا يجوزُ إلاّ في ضرورةٍ أو نُدورٍ، فلا يُخْرّج القرآن عليه، يعني تعدِّي الفعلِ بنفسِه إلى ظرفِ المكانِ المختصِّ.
والقِددُ: جمعُ قِدّة، والمرادُ بها الطريقة، وأصلُها السيرةُ يقال: قِدّةُ فلانٍ حسنةٌ أي: سِيرتُه وهو مِنْ قدّ السّيْر أي: قطعه على استواءٍ فاسْتُعير للسِّيرةِ المعتدلةِ قال:
القابِضُ الباسِطُ الهادِيْ بطاعتِه ** في فِتْنة الناسِ إذا أهواؤُهم قِددُ

وقال آخر:
جمعْت بالرأيِ مِنهم كلّ رافضةٍ ** إذ هم طرائقُ في أهوائِهم قِددُ

{وأنّا ظننّا أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ ولنْ نُعْجِزهُ هربا (12)}
قوله: {فِي الأرض}: حالٌ، وكذلك {هربا} مصدرٌ في موضع الحال تقديرُه: لن نُعْجِزه كائنين في الأرض أينما كُنّا فيها، ولن نُعْجزه هاربين منها إلى السماءِ.
{وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى آمنّا بِهِ فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا (13)}
قوله: {فلا يخافُ}: أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غيرُ خائف؛ ولأنّ الكلام في تقديرِ مبتدأٍ وخبرٍ، دخلتِ الفاءُ، ولولا ذلك لقيل: لا يخفْ، قاله الزمخشري، ثم قال: فإنْ قلت: أيُّ فائدةٍ في رفعِ الفعلِ وتقديرِ مبتدأ قبله، حتى يقع خبرا له، ووجوبِ إدخالِ الفاءِ، وكان كلُّ لك مستغنى عنه بأنْ يُقال لا يخفْ؟ قلت: الفائدةُ أنه إذا فعل ذلك فكأنّه قيل: فهو لا يخافُ، فكان دالاّ على تحقيقِ أنّ المؤمِن ناجٍ لا محالة، وأنه هو المختصُّ بذلك دون غيره. قلت: سببُ ذلك أنّ الجملة تكونُ اسمية حينئذٍ، والاسميةُ أدلُّ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلِيّةِ. وقرأ ابن وثاب والأعمش {فلا يخفْ} بالجزمِ، وفيها وجهان، أحدُهما: ولم يذْكُرِ الزمخشريُّ غيره أنّ {لا} ناهيةٌ، والفاءُ حينئذٍ واجبةٌ. والثاني: أنها نافيةٌ، والفاءُ حينئذٍ زائدةٍ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله: {بخْسا} فيه حذْفُ مضافٍ أي: جزاءُ بخْسٍ، كذا قدّره الزمخشريُّ، وهو مُسْتغْنى عنه. وقرأ ابن وثاب {بخسا} بفتح الخاء.
{وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون فمنْ أسْلم فأُولئِك تحرّوْا رشدا (14)}
قوله: {القاسطون}: قد تقدّم في أول النساء: أنّ قسط الثلاثيّ بمعنى جار، وأقْسط الرباعيّ بمعنى عدل، وأنّ الحجّاج قال لسعيد بن جبير: ما تقول فِيّ قال: إنك قاسِطٌ عادِلٌ. فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال!! فقال: يا جهلةُ جعلني جائرا كافرا، وتلا {وأمّا القاسطون فكانُواْ لِجهنّم حطبا} [الجن: 15] {ثْمّ الذين كفرُواْ بِربِّهِمْ يعْدِلُون} [الأنعام: 1].